«فوضى ترامب».. محاولات يائسة لفهم سياسته

أخبار حياة – في مطار سيام ريب، تتوه العيون بين السقف ذي التصميم البديع، وأرضية تزهو بلمعان يكاد يكون الأكثر تفرداً في العالم. كيف تمكنت كمبوديا، التي كانت تصنف قبل وقت وجيز ضمن الدول الأقل نمواً، وفقاً للأمم المتحدة، من تشييد منشأة بهذه الحداثة والأناقة، في ثاني أكبر مدنها؟ لا تترك اللافتات المنتشرة في الصالة مجالاً للشك: الاستثمارات والخبرات الصينية هي المحرك الأساسي وراء هذا الإنجاز.
وفي أخبار أخرى، تقترح أمريكا فرض تعريفات جمركية قدرها 49% على كمبوديا. أما جارتها فيتنام، فتفرض عليها رسوماً قدرها 46%. وبالنسبة لسنغافورة، فقد لاذت من «المذبحة» بتعريفات 10%، لكنها تخشى على نموذجها الاقتصادي المعتمد على التجارة. وإذا كان جنوب شرق آسيا على خط المواجهة الأمامي في العراك الدائر بين أمريكا والصين، وهي المعركة التي اختار دونالد ترامب شنها، بعدما وصف سابقيه بأنهم كانوا ليّني العريكة مع بكين، فإن هذه التعريفات الجمركية يمكن أن تدفع بالدول المترددة إلى أحضان الصين، فيما ستبدأ الدول الموالية لأمريكا في التحوط. بعبارة أخرى، يتناقض هدف رافعي شعار «اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى»، المتمثل في احتواء الصين مع الهدف الآخر بشأن «يوم التحرير».
الآن، دعوني أخمن: هناك سبب ذكي جداً وراء كل هذا، سيجعل كل شيء يبدو معقولاً، إذ دائماً ما يكون هناك سبب.
لكن متى سيتوقف العالم عن البحث عن الاستراتيجية العظمى لترامب؟ يتذكر القراء البريطانيون بالدريك، الشخصية التلفزيونية سيئة الحظ، التي لطالما كان لديها «خطة ذكية» في جعبتها. لكن ترامب لا يدعي هذا. عوضاً عن ذلك، تنسب إليه خطط ذكية ممن يجدون صعوبة في تصديق أن العقيدة، والنزوات، والعدمية، عوامل في قمة السياسة.
وهكذا لدينا النظرية الأكثر ذكاء من اللازم، وهي أن ترامب، بتعريفاته، يريد فقط الضغط على الدول للتوصل إلى اتفاق لخفض قيمة الدولار. إذا كان هذا هو الهدف، فلماذا لا يستهدف أكبر الاقتصادات؟ (ضم اتفاق بلازا في عام 1985 الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا الغربية وفرنسا واليابان). ما مدى تأثير مولدوفا، التي تواجه تعريفة بنسبة 31%، في أسواق الصرف الأجنبي؟ أو بوتسوانا؟ مهما كان رأي المرء في التعريفات من حيث المبدأ، فإن العشوائية الرياضية التي تم بها التوصل إلى هذه التعريفات، يجب أن تكون دليلاً على أنه لا توجد هنا لعبة شطرنج عظيمة.
و«نظرية بلازا» ليست حتى المحاولة الأكثر غرابة في تبرير سياسة ترامب هذا العام. وبسبب اضطرار البعض لتبرير موقفه من أوكرانيا، اقترح بعضهم أن الأمر ربما يكون استخدام استراتيجية «نيكسون معكوسة»، لاستمالة روسيا للابتعاد عن الصين. ويبدو أنه لماذا قد يكون هذا ضربة استراتيجية قاصمة للصين، التي يبلغ عدد سكانها عشرة أضعاف روسيا، أمراً ليس من شأننا التساؤل عنه.
وهناك نظرية موازية، تذهب إلى أن التقتير على أوكرانيا، سيحرر الموارد الأمريكية، ويجعلها متاحة للمسرح «الحقيقي» في آسيا. لكن إذا كان هو هدف ترامب، فإنه يجب أن يعزز أوضاع حلفاء أمريكا. لكن بدلاً من ذلك، كان ترامب هو أكثر الرؤساء وضوحاً في أن الضمانات الأمنية الأمريكية لا يمكن الوثوق بها.
وإذا كان الأوروبيون يشعرون بأنهم مكشوفون، فلك أن تتصور كيف يشعر الفلبينيون أو اليابانيون حالياً، وكلاهما وقعوا اتفاقية دفاع مشترك مع أمريكا منذ عام 1951. أما بالنسبة لتايوان، التي لا يوجد لديها مثل هذا الشيء، فقد كان جو بايدن (ربما بتهور) صريحاً في استعداده للدفاع عن الجزيرة، بغض النظر عن أي شيء. ترامب ليس كذلك. وهذا خيار محترم. ولكن كيف يتفق ذلك مع فكرة أنه يدخر القدرة والمصداقية الأمريكية لمنطقة المحيط الهادئ؟ إنه لا يتفق. وليس المقصود به ذلك.
في نهاية الأمر، هناك الكثير من التناقضات في وجهة نظر ترامب، إلى درجة أنها لا تبرر الحديث عن وجود خطة عظمى. على سبيل المثال، تعتبر تحركاته الحقيقتين التاليتين بأنهما من المسلمات: الصين قوة تساهلت معها الحكومات الغربية لوقت طويل. لكن هل يكون فيكتور أوربان جسر الصين نحو أوروبا رجلاً عظيماً؟ وإذا كانت الاستراتيجية تعني أي شيء، فهي الشعور بترابط الأمور، لكن لا يوجد أي من هذا في ذلك السياق.
ومع ذلك، سيواصل العالم محاولته إيجاد أي شكل أو نمط في خضم هذه الفوضى. أعتقد أن الأمر إنما هو آلية تكيف عاطفية بالنسبة للكثيرين. ومن المطمئن، الاعتقاد بأن هناك خطة سرية تقوم على قدم وساق في الأوقات الأكثر إثارة للخوف، حتى وإن لم تكن خطة مستساغة.
لكن يعتمل هنا ما هو أكثر من الخوف. ففي النهاية، تواجه المجتمعات الليبرالية صعوبة مع فهم الجهات غير العقلانية، أو حتى الاعتراف بوجودها. وحينما تواجه هذه المجتمعات تلك الجهات، يتمثل رد فعلنا في محاولة إيجاد منطق وراء تصرفاتهم، ويصل الأمر حتى إلى إضفاء صفة منطقية على تصرفاتهم.
لكن حري بنا الإشارة إلى أن هذا الانقياد الأعمى وراء الحماس، هو أمر لا يمكن للغرب أن يفعل الكثير حياله الآن. إذا بنيت ثقافة على فكرة العقلانية العالمية، كما ينبغي لنا، فسيصبح من الصعب بمرور الوقت فهم الدوافع الأخرى للسلوك البشري. والأعمال التجارية فاشلة بشكل خاص في هذا الأمر. إن العقلانية الشديدة لأقطاب التكنولوجيا والمال، هي التي ورطتهم في مأزقهم الحالي بشأن ترامب. ليس الأمر أنهم اعتقدوا تحديداً أنه شخص عملي براجماتي مثلهم. بل إنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن الجميع على شاكلتهم.
وبالنسبة لي، فقد أهدرت ساعات طويلة وكثيراً من الخلايا العصبية، بحثاً عن خطة ترامب العظمى للعالم. هل توجد خطة؟ في واقع الأمر، يوجد لديه اعتقاد راسخ في أن وجود عجز في الحساب الجاري، هو بمثابة «خسارة». ويوجد لديه أيضاً استعداد للتفاوض، بل وحتى قبول شروط لا تناسبه، بهدف أن يعيش المجد اللحظي المرتبط بالتوصل إلى «اتفاق». لكن هل يوجد ما هو أكثر من ذلك؟ توجد لديه رؤية تنطوي على هيكل مالي وأمني جديد، ينافس ذلك الذي أسس له هاري ترومان، وهو ما قد يتحقق في أي لحظة. هل يجدر بي الانتظار والمشاهدة إذن؟ الفكرة مثيرة للضحك، ولدي أيضاً اعتقاد بأن ترامب يضحك كثيراً، لكنه يخفي ذلك. فايننشال تايمز
اكتشاف المزيد من أخبار حياة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.