مقالات

فكرة الهوية.. بين الوطن والدولة

سامح المحاريق

وقف آلاف الأردنيين أمام مجمع النقابات في الشميساني منتظرون دورهم في حملة التبرع بالدم لأهالي قطاع غزة، بعد مناشدة المستشفيات في القطاع، وأتى المشهد مثيرًا لمشاعر الاعتداد الوطني والطوابير تمتد تحت الشمس الحارقة لساعات، ومن نحو أربعة آلاف شخص، تمكنت الفرق الطبية والتمريضية من خدمة ألف منهم، الأمر الذي دفع لتمديد الحملة يومًا إضافيًا.

هل تعرفون شيئًا عن مرضى السرطان الذين قدموا من غزة للعلاج، هل تعرفون جهودًا أردنية رسميةً وشعبيةً للعناية بهم؟ هل يمكن بحالة التسابق من قبل صحفيين أردنيين للالتحاق بالإنزالات الجوية في القطاع، هل تتذكر الشاب الغزي الذي قال: «هاي طيرات أردنية؟ ما حدا بيعملها غير الأردنية”!

المستشفى الميداني الذي بقي مستمرًا في العمل لسنوات، ومع بداية الحرب أخذ دورًا حيويًا في جهود الإنقاذ والإغاثة الطبية، وهل تعلمون أن الجيش العربي كان يعمل بصمت لإخراج المجندات من ممرضاتنا من غزة واستبدالهن بكوادر جديدة، وأن أحدًا لم يُقلق الأردنيين بهذه القصة وقتها؟

ما الذي نتذكره من معركة البيثادين؟ الضروري للعمل مع الجرحى والمصابين، والذي كان الجانب الإسرائيلي يرفض دخوله للضفة الغربية مع بداية تدفق شاحنات المساعدات الأردنية لتأمين الحاجات الأساسية في الضفة، وبناء مخزون استراتيجي من المواد الغذائية والطبية؟

الصراع على فلسطين لم يبدأ في القرن التاسع عشر، هذه أسطورة اختزالية، عشرات العائلات الفلسطينية تعود في أصولها إلى شرق نهر الأردن، طوقان ودروزة وعبد الهادي وجرار، بطون كثيرة تنتمي لبني صخر وبني حسن موجودة في فلسطين منذ سنوات طويلة، والغاية كانت كثيرًا العمل على تعزيز الوجود العربي – الإسلامي في فلسطين في مرحلة حملة نابليون وغزوات محمد علي على المنطقة، وأحيانًا مناصرة فريق أو آخر في حروب القيسية – اليمنية في فلسطين والتي يمكن وصفها بحرب أهلية متعددة الفصول، وكان ذلك يدور حول ملكيات الأراضي في فلسطين التي أصبحت تكتسب أهمية كبرى بعد الحروب الفرنجية (الصليبية)، وهذه مسألة معقدة ومتشابكة يمكن الرجوع لتفاصيلها في كتب التاريخ الاجتماعي للمنطقة.

قبل ذلك، وفي تأويلات التاريخ القديم، نعرف أن الأنباط، المملكة الكبيرة صاحبة التاريخ، كانت البتراء عاصمتها، وغزة ميناؤها الرئيسي، ولعل التوسع بين الممالك التي شملت الضفتين حول النهر أصبح أمرًا متعذرًا في فترة الحكم اليهودي، بما يفسر وجود حالة غير مستقرة تاريخيًا عبرت عنها النصوص الدينية اليهودية، وكان سببها عزل الممالك العربية عن الساحل، ولذلك كان ترسيم جندي الأردن وفلسطين أفقيًا وليس رأسيًا هو التدبير في مرحلة من العصور الإسلامية، ليمتلك كل من الجندين منافذه على البحر المتوسط، فكانت عكا وصور مينائي ما عرف بجند الأردن وامتد إلى اربد وجرش، وكانت يافا وغزة وعسقلان موانئ جند فلسطين الذي يشمل عمان والبلقاء والشراة والجفر.

الأردن الحديث هو دولة قامت بحدود طموحة وبعد مخاض صعب، فالثورة العربية الكبرى كانت تتطلع لكيان يمكنه أن يمثل الشعوب العربية في الشام والعراق، أي المناطق الخاضعة للحكم العثماني، ولو قدر لهذه الدولة أن تقوم لكانت تعادل في الثروة والقوى البشرية تركيا وإيران ومصر، بمعنى وجود دولة تمتلك التأثير والمنعة إلى الحدود الكافية لتحقيق الاستقرار، وكانت هذه الدولة التي شهدت تبنياً واسعًا من مثقفي الشام تحديدًا مثل محمد عزة دروزة وعوني عبد الهادي هي الحلم المجهض.

بقيت الأردن المنطقة الأقل تأزمًا من الناحية الهوياتية التي استغلها الاستعمار من أجل التقسيم، وكان التجانس السكاني إذ يشكل المسلمون السنة نسبة 95% من السكان، والعرب النسبة ذاتها، عاملًا مهمًا في وجود أقليات مطمئنة بسبب ثقافة القيادة في الأردن والخلفية التي حملتها من التنوع والتعدد في مكة على الأساس العرقي حيث يجتمع الشامي بالمغربي بالسنغالي بالبخاري، وكذلك الثقافة العشائرية التي كانت تتفاهم بخصوص الأقليات الدينية على أساس التعايش والجوار الآمن، وفي هذه التركيبة لم يكن في الأردن نزعات الجيوب الطائفية أو المذهبية، أو قلق الهوية بالمعنى الأفقي أو الرأسي.

إشكاليات الهوية التي بقيت موضوعًا مفضلًا لدى الكثير من الكتاب في رحلة البحث عن حواريين يسوقون شعبية مبتغاة تكاد تتلاشى في الواقع اليومي، وخاصة في مراحل الرخاء الاقتصادي أو التأزم الوجودي، فالعسر الاقتصادي يولد غضبًا يحاول البحث عن هدف للتفريغ، حتى لو كان ذلك هو الذات نفسها بمعنى التوتر والقلق ومتاعب نفسية أخرى، والتأزم الوجودي، في مراحل مثل وباء الكورونا يتحلق الجميع في صف واحد لا مجال لتصنيف أو تعريف داخله، أما في حالة العادي واليومي فالأمر يشبه الاحتكاكات الطبيعية التي تحدث، من الأسرة إلى القرية إلى المدينة إلى المحافظة إلى البلد كله، وهذه أمور موجودة في جميع البلدان ووجدت ملاعب كرة القدم والمهرجانات لاستيعابها بصورة صحية.

لنفرق بين هوية الوطن، وهوية الدولة، فالأولى تنتمي لذلك العالم الذي يتقاطع فيه التاريخ مع الجغرافيا، الذاكرة مع الحلم، وفي هوية الوطن يوجد الإنسان، والثانية، تنتمي إلى واقع قانوني ومشروع بناء وتنمية وعلاقات تمثيل داخلية وخارجية، وفيها يوجد المواطن، وفي مشهد الأمس كان المواطنون الأردنيون يفزعون للمواطنين الفلسطينيين من نفس الشعب العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى