مقالات

الصراع بين التعبوية والواقعية.. حديث على هامش ذكرى النكسة

سامح المحاريق

تلقيت ظهيرة السبت اتصالاً من الأستاذ أحمد سلامة، لم أكتب شيئاً في اليوم السابق، وهو يتصل في العادة معلقاً بالتشجيع أو الاختلاف أو التصحيح بخصوص ما أكتبه، وجدته يدعوني إلى فنجان قهوة، ويلح في ذلك، فتركت ما بين يدي من مشاغل وتوجهت إلى دارته، فالخطوط العريضة للقاء كانت تحددت لأنني أعمل منذ فترة على قراءة جانب من التاريخ يتعلق بحزيران 1967، وبعض الهوامش غير المقروءة بالصورة الكافية، وكانت لديه فكرة عن ذلك، فأخذنا نتحدث على هامش حزيران ومقدماته وتوابعه.

كيف اندفعنا إلى النكسة؟ أو كيف وقعنا في فخاخها؟ وما الذي حدث في الأشهر التي سبقتها؟ هذه موضوعات لم تفصح عن أسرارها الكاملة إلى اليوم، وما نخشاه على الدوام أن العوامل التي أسست لهذه اللحظة التراجيدية في التاريخ العربي ما زالت تحمل تأثيراتها الخفية والواسعة في الوقت ذاته، وتظهر في لحظات حرجة من تاريخنا وعلى عكس جميع السياقات.

في 31/05/1965 كما ينقل سعد جمعة في كتابه مجتمع الكراهية، تحدث جمال عبد الناصر متهكماً بدعوات التصعيد البعثية، ليضع الجميع في صورة أن القدرات الدفاعية غير قادرة على التعامل مع إسرائيل، فكيف يمكن الحديث عن الهجوم، وقال عبد الناصر في خطابه ذلك: إذا تكملنا عن الهجوم نبقى بنهرج!، بل ويسترسل: قد تتمنى إسرائيل فعلاً أن نحاربها النهار ده! والسؤال يبقى ما الذي تغير في العامين الفاصلين بين خطابه المباشر والصريح والانسياق إلى قرارات بالإندفاع إلى الحرب، وتسخين الأوضاع وصولاً إلى الخامس من حزيران 1967.

قبل الحرب لم يكن الأردن متحمساً للتصعيد، ولكن الملك الحسين مضى إلى القاهرة ليوقع اتفاقية الدفاع المشترك في 30/05/1967، وتوجه الفريق عبد المنعم رياض إلى عمان ليكون قائداً للجبهة الأردنية، وعلى الرغم مما كان الملك يراه إلا أنه تصرف بشجاعة في تلك المرحلة، وموازين القوى لا تتحمل تغيب الأردن عن المعركة، ولا يمكن من ناحية أخرى برجماتية، أن يترك الملك الأردن تتحمل مسؤولية الهزيمة في حالة البحث عن طرف يتحملها، وكان البعض سيستديرون إلى الأردن بطبيعة الحال ليبرروا الهزيمة إن لم تشارك الأردن في الحرب.

بالقطع لم يكن هيكل مرتاحاً، وهو يكتب بعد المقدمة تحيةً للأردن والجيش العربي الأردني الذي قاتل معركة باسلة بقيادة الملك حسين، حسب نص خطاب التنحي، ليستكمل عبد الناصر: «الذي أقول – للحق والأمانة – إنه اتخذ موقفاً ممتازاً، وأعترف بأن قلبي كان ينزف دماً، وأنا أتابع معارك جيشه العربي الباسل في القدس وغيرها من مواقع الضفة الغربي، في ليلة حشد فيها العدو وقواه المتآمرة لا ما يقل عن 400 طائرة للعمل فوق الجبهة الأردنية.”

في جلستي عند أحمد سلامة، أطلعني على نص رسالة الملك التي وجهت للأردنيين في ذكرى حزيران وبعد فترة وجيزة من أحداث نيسان 1989، وأشار فيها إلى مقال سلامة حول حزيران، وفيها يذكر الملك برقية الرئيس عبد الناصر للملك الحسين في السادس من حزيران، وفيها:

“عندما يكتب التاريخ، سوف يذكر لك جرأتك وشجاعتك، وسوف يذكر للشعب الأردني الباسل أنه خاض هذه المعركة فور أن فرضت عليه دون تردد، ودون أي اعتبار إلا اعتبار الواجب والشرف».

تساءلت بيني وبين نفسي كثيراً عن سبب ذلك الاعتراف المتكرر بالدور الأردني، وعن الرغبة المبطنة لدى عبد الناصر للاعتذار للملك الحسين، من خلال التأكيد على أمور كان يحاول الإعلام المصري في مراحل سابقة أن يلصقها بالملك الحسين، وعززت البرقية التي لم أكن أعرف عنها مسبقاً من الفكرة التي تشكلت لدي حول وجود خلاف عميق بين الملك الحسين وعبد الناصر حول الأولويات والتشخيص القائم للواقع، وكيف أن الإعلام المصري في تلك المرحلة كان يتجنى على الأردن قبل نكسة حزيران، إلى أن ظهرت الحقيقة الكاملة في الساعات الأولى للحرب.

في أزمنة التراشق أسس الإعلام المصري بقيادة هيكل لكثير من الاتهامات المعلبة التي بقي الأردن يعاني منها، ويتضح ذلك في مقابلات هيكل والتدليس المستمر والواضح عندما يتحدث عن نشأة الإمارة مدعياً أنها استجابة لوظيفة العزل بين المشروع الصهيوني ودول الخليج الثرية بالنفط، متناسياً أن النفط اكتشف في الخليج العربي بعد التأسيس بنحو عقد من الزمن، وأنه لم يكن عاملاً مؤثراً في تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى، ويتحدث أيضاً عن العقد التاريخية للهاشميين، وهي أيضاً التي تخلط بين تجربتين مختلفتين، يمكن أن الأردن استقل بمسا?ه الخاص عن التجربة في العراق عندما توجه إلى القاهرة ليلتزم مع السعودية وسوريا ومصر بالوقوف في مواجهة الإنزلاق لإغراءات مبدأ ايزنهاور الذي أسقط لبنان من ذروة مشروعه الواعد تجاه العصبية والطائفية، وكان ذلك كله قبل انتهاء التجربة الهاشمية في العراق 1958.

أثبت الأردن جدارته التاريخية بتجاوزه لمحنة 1967، فاستطاع أن يتجاوز الأزمة وما تبعها من ارتدادات عميقة، وهو أكثر الامتحانات عمقاً لقدرته على الصمود، وكانت معركة الكرامة 1968 ترسم واقعاً جديداً، فالموقف الأردني لم يستطع أن ينازل اسرائيل على المستوى العسكري فقط، بل ومضى يشتبك سياسياً ودولياً في مختلف المحافل، ولذلك كان يجب على الأردن بصورة دائمة أن يتخذ سياسةً خارجيةً مرهقةً، لا تميل إلى المغامرات أو (المبالغات)، فالأردن يلتزم بقواعد الشطرنج في سياسته، وحتى وإن كانت بعض الحركات غير مفهومة في توقيتها، فإنها أظ?رت في المدى البعيد أنها كانت خياراً لا يمكن تجنبه، وأفضل الخيارات المتاحة في ظل الظروف القائمة.

بالعودة إلى هوامش النكسة، كان جمال عبد الناصر يتصرف برؤية تعبوية أملتها عليه حياته العسكرية، وهو الأمر الذي جعله يبحث عما يدعم وجهات نظره، ويعتبر أن المواقف الشجاعة ظاهرياً تؤكد رؤيته، وتعطيها العمق اللازم، أما الملك الحسين، فكان يستند في ثقافته على تاريخ واسع وتجارب أظهر بعضها ضرورة الالتفات إلى أصغر التفاصيل، فالتاريخ الذي يحمله كان يمتد لقرون بدأت مباشرة بعد وفاة الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وينتشر على جغرافيا واسعة من الأطلسي إلى خراسان، وكان الرجلان الكبيران في التاريخ العربي المعاصر يعانيان سوي?ً من ظاهرة الأفندية الذين يمتلكون الكثير من التشخيص ويفتقدون لأي بدائل واقعية، وربما ما زالت الأوضاع العربية تنتج وبزخم المزيد من هذه الأنماط في كل اتجاه.

الأفندية كانوا محلاً للبحث والنقد في ما كتبه سلامة قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وما زالوا إلى اليوم حاضرين بجملهم الاعتراضية التي لا تشكل أي معنى في حد ذاتها، وتبدد المعنى الذي يحمله أي خطاب آخر، وعلى الرغم من نقاشي مع أحمد سلامة في شأن الأفندية والإعلام، وما اختلفنا بخصوصه، وما ناقشناه من مصطلحات وظواهر، ومع التوافق على اختلاف الظروف بصورة جذرية عما كانت عليه في 1989، وجدنا أن الأفندية ما زالوا يشكلون مشكلة كبيرة، وأن الحل الحقيقي ربما يكون في تأسيس إعلام يستطيع يؤمن بقدرته على المزاحمة من غير أن يستهدف الاس?يلاء على المشهد بأكمله، وربما إذ نتحدث اليوم، في مرحلة مقاربة من ذكرى تأسيس صحيفة الرأي، وبعد أكثر من 15 عاماً من الكتابة فيها، مع فترات الزعل والحرد، مضطرون لاستدعاء ظروف تأسيس الرأي والطموحات المحمولة وقتها، إذ ليس من المعقول أن تبقى بعض الأفكار السائدة التي أطلقها أحمد سعيد وإذاعة صوت العرب ما زالت تلصق بالأردن بعد كل هذه السنين، فأي انكشاف إعلامي نعيشه؟

عدت لقراءة الرسالة قبل المغادرة، والبرقية التي كتبت بخط عريض، وتذكرت مثلاً مصرياً سمعته أثناء دراستي، يعبر تقريباً عن العلاقة بين رجلين كبيرين وعظيمين مثل الملك الحسين وجمال عبد الناصر، ويقول: تشتمني في شارع وتصالحني في حارة، أي أن الهجوم كان متواصلاً وواسعاً من خلال إذاعة يسمعها جميع العرب، والاعتذار أتى في برقية خاصة، وفي خطاب كان الجميع يسمعونه ولا يسمعونه لطغيان الصدمة والحزن، خطاب بقي المصريون يرفضون العودة له لأنهم رفضوا التنحي وخرجوا إلى الشوارع وعندهم رغبة في اسقاط المرحلة بأكملها.

الفرق بين عبد الناصر والملك الحسين، يرحمهما الله، في التعاطي مع الصحافة يظهر في الاستجابة، فبينما تمكن هكيل من أن يكون الطبقة الاسفنجية التي تفصله عن المصريين، بمن فيهم النخبة والمواطنين، من خلال هندسة المؤسسات الإعلامية، فإن الملك الحسين بقي متواصلاً مع الإعلاميين يلتقيهم ويسمع منهم ويتحالف معهم، بل ويشتبك ايجابياً أحياناً، وكان من ذلك الرسالة الموقعة منه في ذكرى حزيران 1989 وحديثه عن المقال الصحفي الذي كتبه أحمد سلامة في نفس اليوم بعنوان: «خمسة حزيران بين أحمد سعيد والأفندية»، وهي الرسالة التي رأيت نسخته? الأصلية الموقعة من الملك لتنشر بعدها بتوجيه ملكي في وسائل الإعلام كافة، وبذلك، كان الملك ينظر من زاوية أوسع للأمور، ولا يضن بوقته في النقاشات والحوارات، فيذكر سلامة أن الجلسة تأخرت في أحد الأيام، فما كان من الملك إلا أن مازح العاملين في الديوان ليتهمهم بالبخل ويطلب غداءً على حسابه، وليس حساب الديوان، للصحفيين، ويستكمل الاستماع لآرائهم ومداخلاتهم.

يرحل عبد الناصر بعد سنوات قليلة، ويبقى هيكل ليعرض بضاعته لتشكل صوراً ذهنيةً وأنماطاً شبه مستقرة، علينا فقط، أن نتذكرها من وقت إلى آخر، ونتذكر في حزيران 2023 أننا خضنا المعرفة فور أن فرضت علينا دون تردد، ودون أي اعتبار إلا اعتبار الواجب والشرف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى