مقالات

مش وقته

سامح المحاريق

كم يبدو التاريخ مغرياً لإعادة القراءة، وفي بلد مثل الأردن، يتناثر كثير من تاريخه في المرويات والشهادات الشفيهة، فالأمر يبدو جذاباً للغاية، لأن كثيراً من رجال الدولة في مراحل متعددة لم يتركوا مذكرات أو شهادات مكتوبة، وما توفر منها، كان يسعى للايحاء بدور كبير وخطير، أو لتبرير بعض المواقف والقرارات، كما أن تغيب ثقافة كتابة المذكرات، أدى إلى تعذر المقارنة بينها للخروج بروايات مرجحة أقرب للواقع.

ونضيف لذلك أن الصحافة الأردنية لم تكن كافية من الناحية الكمية لمتابعة السياقات السياسية والاجتماعية بصورة كاملة، كما أن كثيراً من الذي كتبته الصحافة العربية عن الأردن كان انفعالياً وانطباعياً ومحكوماً بالأيديولوجيا، أما حالة البحث الاجتماعي والأنثروبولوجي، فهي متفرغة لمجرد كتابة رسائل جامعية حول موضوعات مكررة ومضمونة وموفرة للجهد ومريحة للرأس.

اشتغلت على التاريخ بصورة شخصية في أكثر من مرحلة من حياتي، ووقعت في تناقضات ترجع إلى تطور أدواتي النقدية، مثل تجنب إسقاط وعي المرحلة الراهنة على الحدث التاريخي، الابتعاد عن قراءة التاريخ من زاوية الراوي العليم لأن كثيراً من صانعيه وشخوصه كانت تعوزهم المعرفة والإحاطة المناسبة بالعديد من الأحداث، وبطبيعة الحال، فإن قراءاتي للتاريخ لم تأت مواتيةً لما يطلبه المستمعون لافتقادها للدراما التي توظف من أجل جلسات النميمة والغيبة السياسية.

لست معنياً بالمتقاعدين من العمل السياسي أو العام، وخاصة المحبطين منهم والذين يشعرون بأن الظروف أو أصابعاً ما خفية دفعت إلى تجاوزهم فلم يحصلوا على ما يستحقونه وفقاً لتقديرهم الشخصي، كما أنني لست معنياً بالذين يجسون عمق المياه وحرارتها ليسبحوا تجاه مكتسبات شخصية، خاصة عندما نرى تآكل المكتسبات التي يحققونها في المدى الطويل.

ولكن ما يجب الانتباه له هو الشباب الذين يتواجدون في هذه الجلسات التي تجتر التاريخ بصورة تخدم الرؤية أو المصلحة الشخصية ويجدون أنهم مندفعون للتصديق والتبني والفعل بناء على المكانة التي يحوزها المتحدثون في بيئاتهم الاجتماعية من ناحية، ولعدم وجود الرواية المتوازنة من ناحية أخرى.

التكنولوجيا فرضت نفسها أيضاً مع مجموعات الواتس أب التي تشكل بيئة خصبة للجدالات التي تدور في الأردن، ومع الاعتراف بأهمية ما يطرح من بعض أعضائها، وأثره في الإضاءة على زاويا معتمة في السياق الوطني، إلا أن كثيراً مما يطرح لا يتردد ولو للحظة في ممارسة العبث وتفعيل حالة الدراما ويشكل حالة تطبيقية لهوس لفت الانتباه، ويبدو أن الحاجة أصبحت ملحة لمحاورة هذه الحالة من الانهمار للآراء والنظريات في ظل ما تحفل به من مغالطات وخطاب ملغم بالحسابات الضيقة والشخصية في حالات كثيرة.

هذه مهمة صعبة على أي حد، أو مجموعة، أو مؤسسة، فالحالة سائلة من حولنا، وعلى الأقل متشظية ومعقدة، ولذلك أستذكر بعضاً من الأصدقاء الأكثر تجربة وخبرة مني والذين كانوا كثيراً ما يبادرون بالاتصال بي لا لمناقشتي فيما أكتبه، ولكن ليذكروني بأن الوقت غير مناسب لبعض الطروحات، وكنت أرد في معظم الأحوال: إن لم يكن الآن.. فمتى؟ وفي أحوال معينة، كنت أعترف بالخطأ، وأحاول استدراكه إن كان ذلك ممكناً.

أجد نفسي اليوم، في نفس الموقع أتفهم الدفع بحجة التوقيت، خاصة أن بعضاً من الجدالات التي تطرح تستند إلى مقدمات تعود إلى عقود من الزمن، إلى ما قبل وجود الكيان السياسي الأردني المستقل نفسه، البعض يعودون إلى التاريخ العثماني وإلى فرضياته متجاهلين أن الدولة في الأردن استطاعت أن تتجاوز، بكثير من الحكمة والصبر و(كظم الغيظ) و(التسويات المدروسة) هذه المقدمات، ولو كانت توقفت عندها لما استطاعت أن تحقق شيئاً.

الوقت غير مناسب، والحالة غير مواتية، ومن يحاولون الاستحواذ على مواقع الأبوة ليس لديهم شيء سوى معلومات ناقصة أو غير واضحة أو غير دقيقة، لأنه لا توجد المعلومة الكاملة ببساطة، فالوضع يتعلق بالنزول من الشجرة، والتفاعلات كثيرة، والوضع يشبه كرة الجليد المتدحرجة، ستتوقف في النهاية، هذا شيء معروف، ولكن بأي طريقة وأي تكلفة، فهذه مسألة ما زالت تتفاعل بصورة يومية.

ليس من مصلحة أحد أن يبدأ في السيناريوهات الافتراضية، وأن يتحدث وكأن الحرب ستنتهي بالطريقة التي تريدها (إسرائيل)، ولا أن يعتبر شخص آخر أننا محصنون وأن ردود أفعالنا مبالغٌ فيها، وكأن الأردن يقع على خط الاستواء، وليس لأحد أن يقدر أن ما نفعله مناسب، أو غير مناسب، كافٍ أو غير كاف، فلا أحد مثلاً يعرف القدر الذي نحتاجه من العلاقات والجرعة المقبولة من التوازنات التي يمكن أن تجعلنا نمتلك المبرر للتدخل مع الأصدقاء، أو هامش التعامل مع الأعداء، في حالة ضفة غربية ساخنة على حدودنا تماماً.

المطلوب هو الوقوف من غير تردد أو تصيد أو تفذلك أو تفلسف مع الدولة في هذه المرحلة، لأن الدولة تتحرك بغريزة البقاء وخبرة التأقلم والاستيعاب، ويمكن بعد ذلك أن نجد الوقت، كل الوقت، لطرح كل الأسئلة، البسيطة والمركبة، المريحة والمرهقة.

ربما كان المشهد الأردني يفتقد للآباء في بعض المراحل، ولكن في هذه اللحظة، ربما من المناسب أن نمارس القتل الفرويدي، وأن ننظر في اتجاه واحد من غير الالتفات إلى الماضي وحساباته، فالتاريخ في المنطقة دخل منعطفاً حاداً وحاسماً في الأشهر الأخيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى