مقالات

كيف يولد الفتى مرّتين؟

عيسى الشعيبي

شأنهم شأن كلّ الأولاد والبنات في شتّى الأصقاع والأمصار، يولَد الفتيان والفتيات ولادة طبيعية، أو قيصرية في بعض الحالات النادرة، إلّا في فلسطين التاريخية، يولد الولد مرتين اثنتين متباعدتين في الزمان والمكان. في الأولى من رحم أمه البيولوجية، وفي الثانية من رحم معاناته الوطنية وشقاء حياته اليومية، سواء أكان ذلك في مسقط رأسه أو في ديار الشتات، تماماً على نحو ما كان عليه حال الآباء والأمهات منذ سبعة عقود وأزيد من هذا الزمان الذي لا يعد إلّا بالقليل من الأمل والكثير من الشقاء والحرمان.

في الشهرين، الماضي والحالي، ولد بين آلاف الأولاد والبنات، تحت حكم الاحتلال البغيض، فتيان اثنان من جديد، كريم يونس وماهر يونس، بعد أربعين سنة من الميلاد الأول، وهما أبناء عمومة، رفقاء مسار ومسيرة طافحين بالعنفوان، ولد كل منهما وهو في الستينيات من العمر، من قريتين متجاورتين في المثلث الشمالي من أعمال فلسطين 48، عارة وعرعرة، الرابضتين على الواد، اللتين تنتميان، مع الجليل والنقب، إلى مثلّث الصمود الأكبر لدى عرب داخل الداخل، القابضين بأكفّهم العارية على الجمر إلى ما شاء الله.

فكرة الولادة الثانية أتت من أول لقاء إعلامي مع الحاجة وداد، أم الأسير المحرّر ماهر يونس، تلك الأم العظيمة، التي قالت، وهي تحتضن الابن بلهفة الأمهات الفاضلات، ولأول مرة بعد 173 ألف يوم بلياليها الطويلة، إنّ ماهر قد ولد اليوم من جديد، وإنّ شعوراً يغمرها بالانتصار على الجلاد، الذي حرمها زيارة الابن، إلّا أنّها لم تبكِ أمامه أبداً، ولم تذرف دمعة واحدة، رغم الحرقة الشديدة ولوعة الاشتياق، ولم تطأطئ الرأس قدّامه مطلقاً، لتحرمه لذّة التشفّي بحسرة الأمهات، فبدت تلك المرأة التسعينية الأمية وكأنها خرّيجة إحدى أشهر المدارس في بلد كانت قراه في زمن طفولة هذه الحاجّة لا تفتح أبوابها أمام الإناث.

بكلام آخر، تخلّقَ في السماء الفلسطينية، خلال الايام القليلة الماضية، كوكبان دريّان، تراصفا إلى جانب مئات النجوم المضيئة في عتمة الليل الفلسطيني الطويل، كريم وماهر، الولدان الكبيران الممتلئان وهجاً قادراً على تبديد جبلٍ واحد على الأقل من سلسلة جبال الظلام المُطبق فوق الرؤوس العالية، وفي النفوس التي لا تعرف الكلال، وبذلك أوجد هذان الفتيان الملهمان قوة دفع معنويةٍ، مضافة إلى قلوب المقاتلين من أجل الحرية، ناهيك عن انتزاع لحظة فرح غامرة وسط كل هذا الأسى والالتياع المقيم بين ظهرانينا منذ مائة عام وعام.

وأحسب أنّ ماهر وكريم يقدّمان شرحاً شافياً وافياً لكلّ من قد يستعصي عليه فهم كنه كلّ هذا الصمود في وجه الاحتلال، وإدراك أسباب كلّ هذا الصبر والتجلّد غير المحدود على عاديات النكبة والاقتلاع، فضلاً عن فهم ديناميات انبعاث طائر الفينيق من تحت الرماد، حيث خرج هذان الفتيان من غياهب المعتقلات، بعد أن صارا كهلين، من دون أن تضعف لديهما نبرة الصوت أو رباطة الجأش، ومن غير أن يتزعزع عندهما اليقين بحتمية الانتصار في هذه المعركة المصيرية متعدّدة الأشكال، إذ بدا كل منهما، لحظة تنسّم هواء الحرية، وكأنهما كانا يمضيان وقتاً مستقطعاً من زمن مباراة، وها قد عادا إلى الملعب أشد بأساً.

وهكذا، أصبح في وسع من يعوزه دليل إثبات على قوة الشكيمة والقدرة اللامحدودة على التحمّل وتقديم التضحيات الثمينة لدى أبناء شعب يواصل تشييع مواكب الشهداء كل طالع شمس، سبر غور هذه المقاومة المجيدة ضد الإرهاب المنظّم وجرائم قطعان المستوطنين، والوقوف على سرّ أسرار الحكاية الفلسطينية، التي استعاد من خلالها شعب الجبارين وعيه بذاته الوطنية، استردّ هويته غير الملتبسة، عزّز حضوره السياسي وراكم على بنيته الثقافية، أقام أول رأس جسر على المتاح من وطنه التاريخي، وعبر به من مدارج التاريخ إلى تخوم الجغرافيا، وغدا رقماً صعباً في المعادلة، لا يمكن شطبه ولا القفز فوقه، في سيرة كفاحية ترقى إلى ضفاف الأسطورة الإغريقية.

وما كان لهذه الحكاية الطويلة أن تتحقّق، أن تهبط من عليائها في قبّة السماء البعيدة إلى أرض الواقع المُعاش، لو لم يكن لدى هذا الشعب الذي تمزّق نسيجه الاجتماعي شرّ تمزّق، شُرّد من دياره بالقوة القاهرة، ضاعت بلاده وسُلبت هويته وأرضه، أن يصعد على درجات السلّم كلّ هذا الصعود المتواصل، لو لم يكن هناك آلاف الفتيات والفتيان الأشداء، أمثال كريم وماهر يونس، ممن يولدون مرّتين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى