مقالات

صِدقُ المنجمين وكذبُهم

د.جواد العناني
تعاقب، على مرّ الأيام، فلكيون ومنجمون كثيرون، لكنّ أشهرهم هو الفرنسي ميشيل دي نوسترادام Michel de Nostredame ، المعروف باسم “نوستراداموس”، الذي كتب مجموعة تنبؤاته للمستقبل في منتصف القرن السادس عشر، أو قبل ما يقارب 450 سنة.

وقد قدم نوستراداموس (14 ديسمبر أو 21 ديسمبر 1503 – 2 يوليو 1566) آلاف التنبؤات للمستقبل، في كتابه “النبوءات” الذي صدرت الطبعة الأولى منه في عام 1555.

وقد كثر المنجمون في الوطن العربي من الذين يتبعون خطى نوستراداموس ويقلدونه، مثل ميشيل الحايك في لبنان، الذي يجلس كثيرون مُسَمّرين أمام شاشات التلفاز ليسمعوا تنبؤاته العامة عن العالم، وتنبؤاته الخاصة بالأقطار العربية وغيرها.

والمنجّمون الحديثون لا تمتد تنبؤاتهم أكثر من عام، لأنهم لو تنبأوا لمدد أطول انقطع باب رزقهم الذي يتجدّد كل رأس سنة جديدة، ولأنّ احتمالات الخطأ في التنبؤ تكون أعلى من التي يطلقونها لمدد قصيرة. وهم لا ينطقون كلية عن الهوى، ولا هم يوحون بما يجري بسبب قوة بصائرهم وفراستهم، ولكنهم يحلّلون نمط الأحداث، ويجمعون بعض التحليلات، ويكونون لأنفسهم من ذلك كله مؤشّرات معينة يصوغونها في قالب التنبؤات.

لكن الصياغة ليست محدّدة إلا في حالات قليلة، كأن يذكروا اسماً بعينه، أو حدثاً سيقع في مكان محدّد. لكن الصياغة في عمومها مكتوبة بلغة فضفاضة مرنة تعطيهم الفرصة ليقولوا: “هه… هل رأيتم، ألم أقل ذلك؟”.

ولكن نوسترادموس الذي عرف بإنجازاته في مجال الكيمياء والطب، وأشرف على علاج بعض المدن التي ابتليت بمرض “الموت الأسود”، أي الطاعون، كوَّن لنفسه سمعة مهنية راقية، ومنها معرفته بالفلك وقراءة النجوم، فيما جذب إليه كثيرين من الأُسر الثرية التَّواقة إلى معرفة ما يخبئه لها القدر، فكسب مالاً كثيراً من طريق ذلك. وكان أبواه يعملان في الطب. وهو ينحدر من أسرة يهودية، لكنّه قبل بالتعميد كمسيحي، وإنْ كان يمارس الطقوس التلمودية في منزله.

تنبؤات بحرب طاحنة
الأجواء التي سادت فيها الحروب في أوروبا، وصراع الممالك، وشيوع الأمراض السارية المعدية، مثل الطاعون والسل والزهري، جعلته يرى الحياة من ذلك المنظار. ولذلك، جاءت تنبؤاته مختلفة في موضوعاتها ومداها عن غيرها من الفلكيين.

وقد تنبأ الفرنسي ميشيل دي نوسترادام، مثلاً، بأن حرباً طاحنة ستجري، وقد سارع بعضهم، فقال ذلك عن الحروب النابليونية. وقال آخرون إنّها عن الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وهناك من قالوا إنّها ستكون حرباً يقودها شخص مهووس، فقالوا هي الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وصاحبها أدولف هتلر. لكنّهم عادوا وأسقطوا هذا التنبؤ على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحرب أوكرانيا التي اندلعت يوم 25 فبراير/ شباط 2022، والتي ستقود إلى حربٍ عالمية ثالثة.

وهبّ فلكيون كثيرون في الهند وبعض الدول الأخرى ليقولوا إن هذه الحرب واقعة عام 2023، لأنها تأتي بعد توقّعات بحدوث وباء يقتل الملايين. وقالوا: “ها ها… إذاً، فالمرض هو فيروس كورونا أو كوفيد 19، والحرب التي بعده هي التي بدأها فلاديمير بوتين. وبما أن القراءات الاقتصادية والسياسية تقول إن العام الجاري 2023 سيكون عاماً قاسياً يتعمّق فيه الركود الاقتصادي، وتكثر فيه الكوارث الطبيعية، ويجوع فيه مئات الملايين، إذاً، هو عام مهيّأ لحرب عالمية جديدة لا تبقي ولا تذر”.

وأجلس للاستماع إلى ناسٍ كثيرين في وطني الأردن في المناسبات الاجتماعية، بخاصة اجتماعات العزاء، ليستغرق الناس في الحديث عن المستقبل القريب المظلم، فهذه الحكومة الإسرائيلية هي الأسوأ، وإنّ مجرّد وجودها يعني أن لا مناص من اندلاع الحرب في المنطقة.

أزمات اقتصادية وحروب
ويقول آخرون إنّ كثرة الزلازل والبراكين، وزيادة التظاهرات والاحتجاجات الشعبية هي المؤشّرات القوية التي تحدّث عنها الفرنسي نوستراداموس، وتؤكد أنّ الدمار مكتوبٌ على جبين العام الجديد… ويقودني هذا إلى كلمة “جبين”، التي استخدمها الشاعر أحمد شوقي في قصيدته “يا ناعماً رقدت جفونه”، وغنّاها الموسيقار محمد عبد الوهاب. وفيها بيت شعر لغته ليست سليمة يقول: “ما العمرُ إلّا ليلةٌ/ كان الصباحَ لها جَبينُه”.

وكنت أسأل زملائي دائماً أن يفسّروا لي معنى بيت الشعر، فكانوا يقولون: “إنّ العمر محدود كأنه ليلة، ويأتي الصبح ليكون جبينها الأغرّ”. فأصمت وأقول: “لا ليس صحيحاً”. وبعد طول رجاء، أشرح لهم أن كلمة “جبينه” الواردة في آخر البيت تعني “قبرَهُ” فالعمر يطول لليلة واحدة، ومتى أطلّ الصبح كان قبراً لتلك الليلة ومدفنها. ويقولون في مصر عن المقبرة بأنها الجبّانة، والجبين هو القبر، أو اللحد.

وخلاصة المعنى، أنّ الفلكيين ليسوا أسوأ حالاً في توقعاتهم من الاقتصاديين ودور الأبحاث والدراسات والخبرات الاقتصادية والمالية، التي تفشل في التنبؤ بمجريات الأمور المستقبلية أو بمفاجآتها، فهم فشلوا في التنبؤ بالكساد الكبير عام 1929، واستمر 10 سنوات كاملة، أي حتى عام 1939 وفي قراءة المشهد النفطي عام 1974، وفي التنبؤ بالارتدادات الاقتصادية عام 1987، وفي الهزّة المالية الكبرى التي اندلعت عام 2008. وفي قراءة المشهد الذي أدّى إلى حرب أوكرانيا في فبراير من عام 2022 بعد انفجار وباء كورونا في نهاية عام 2019.

قد يكون عام 2023 أفضل بكثير من عام 2022، لكن المنجّمين الذين يصوغون تنبؤاتهم بلغة مطّاطة فضفافة تحتمل معاني وتجليات كثيرة، يقولون إن العام الحالي لن يكون سعيداً.

المشكلة تكمن في الحقيقة أننا إذا صدقنا ما يقوله المنجّمون أو إذا فسّرناه حسب أهوائنا المتشائمة، فإنّ هذه التوقعات ستصبح تنبؤاتٍ محققة لذاتها، بسلوكنا الجمعي الساعي إلى تفاديها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى