هل تغير أمريكا موقفها من عمالة الأطفال؟

أخبار حياة – هناك أجواء رجعية تسود أمريكا، في ظل الولاية الرئاسية الثانية لدونالد ترامب. الحمائية التجارية عادت. الحصبة عادت. والآن عمالة الأطفال قد تعود أيضاً.
على سبيل المثال، هناك اقتراح تشريعي في فلوريدا لتخفيف القيود على «توظيف القصّر». ولا يتعلق الأمر بتسهيل حصول المراهقين على وظائف في عطلة نهاية الأسبوع أو خلال الصيف.
بل يقترح مشروع قانون في مجلس الشيوخ بالولاية، السماح لأصحاب العمل بجدولة عمل من تتراوح أعمارهم بين 16 و17 عاماً، بعد الساعة 11 مساء وقبل الساعة 6:30 صباحاً، عندما يكون لديهم مدرسة في اليوم التالي.
كما سيزيل مشروع القانون حد الـ 30 ساعة المفروض على عدد ساعات عمل من تتراوح أعمارهم بين 16 و17 عاماً في الأسبوع خلال الدراسة، وسيزيل حقهم في الحصول على استراحة بعد 4 ساعات.
وسينطبق هذا أيضاً على من تتراوح أعمارهم بين 14 و15 عاماً، الذين تخرجوا بالفعل في المدرسة الثانوية، أو يتلقون تعليماً منزلياً، أو مسجلين في مدرسة افتراضية.
لماذا؟ في تبريره للمقترح، قال عضو مجلس الشيوخ الجمهوري، جاي كولينز، راعي مشروع القانون، أمام جلسة استماع، إن الهدف ببساطة هو مواءمة قوانين فلوريدا مع القانون الفيدرالي لعمالة الأطفال (الذي يعود تاريخه إلى عام 1938)، وأن ذلك سيكون مفيداً للشباب، لأن الأمر: «يتعلق الأمر بتنمية المهارات الناعمة والقدرات التنفيذية».
وأخيراً، جادل بأن مشروع القانون يهدف أيضاً لاستعادة حقوق الوالدين: «فالآباء هم الأقدر على رعاية أبنائهم وتنظيم جداولهم»، بحسب قوله.
لكن من الصعب تصور وجود دوافع منطقية لأي من الأبوين لقبول إرهاق أبنائهم بنوبات عمل ليلية، تسبق يوماً دراسياً، أو الموافقة على حرمانهم من فترات الراحة الضرورية لصحتهم البدنية والنفسية.
ويكمن الخطر، وفق معارضي القانون، في أن المراهقين المنحدرين من أسر فقيرة، الذين يعانون غياب الأهل أو انشغالهم الشديد، سيتعرضون لضغوط من أرباب العمل، للموافقة على هذه النوبات، بحكم حاجتهم الماسة للوظيفة، ما يأتي على حساب تعليمهم، وهو فرصتهم الأفضل للخروج من دائرة الفقر.
ووفقاً لمعهد السياسة العامة في فلوريدا، وهو مركز أبحاث يعارض مشروع القانون، فإن قرابة 20 % من الطلاب يعانون بالفعل من «الغياب المزمن» عن مدارس فلوريدا (المعرف بالغياب لمدة 21 يوماً أو أكثر).
وقد قطعت شابة من أسرة مهاجرة مسافة طويلة للمثول أمام جلسة الاستماع، لتروي للمشرعين تجربتها مع العمل منذ سن الخامسة عشرة، قائلة: «في كل وظيفة عملت بها، تعرضت للاستغلال… ولم أخبر والدي لأنني كنت أرغب في إعالتهم»، ثم توسلت إلى المشرعين التصويت برفض مشروع القانون. غير أنهم صوتوا بالموافقة، مع العلم أن المشروع لا يزال أمامه عدة مراحل أخرى قبل إقراره نهائياً.
يضاف إلى ما سبق المخاطر الصحية الجسيمة لهذا التوجه، فالأبحاث العلمية المعاصرة كشفت النقاب عن الأضرار البالغة التي يتسبب بها العمل الليلي لجسم الإنسان، ومنها ارتفاع احتمالات الإصابة بالسكري والسرطان. ويصف البروفيسور راسل فوستر، خبير علم الأعصاب الإيقاعي بجامعة أكسفورد، العمل في النوبات الليلية بأنه «كارثي لسلسلة طويلة من الأسباب».
ويشدد على أن المراهقين يحتاجون بشكل خاص لساعات طويلة من النوم، لضمان الأداء السليم لأدمغتهم، مضيفاً: «سيقع عبء هذه السياسة على كاهل أبناء الفقراء تحديداً، وسيهمش فرصهم التعليمية، ويحرمهم من الجسر الوحيد للنجاة من مستنقع الفقر».
ولا تنفرد فلوريدا بهذا النهج، فوفق معهد السياسة الاقتصادية، تقدمت 31 ولاية أمريكية بمقترحات تشريعية لتقويض آليات حماية الأطفال العاملين بين عامي 2021 و2024.
وعلقت نينا ماست، المحللة بالمعهد، قائلة: «نحن أمام ظاهرة تتجاوز فلوريدا بكثير»، معتبرة أن وراء هذه التشريعات «استراتيجية منسقة»، تديرها جماعات الأعمال، لمواجهة الضغوط المتصاعدة لرفع الأجور، في ظل شح العمالة، واحتمالات الترحيل الواسع للمهاجرين.
رغم ذلك، تسلك ولايات أخرى مثل كولورادو وإلينوي مساراً معاكساً، عبر تدعيم منظومة حماية عمالة الأطفال، وتغليظ العقوبات على المنتهكين.
وتعكس هذه التطورات حالة الاستقطاب بين قوى تتشبث بالماضي، وأخرى تتطلع للمستقبل.
فبعد انطلاق الثورة الصناعية ببريطانيا، خاض المشرعون نقاشاً مطولاً حول كيفية مواجهة ظاهرة عمالة الأطفال المستشرية آنذاك. وحينها، رفض البعض أي «تدخل في سلطة الوالدين وأصحاب العمل»، باعتباره «مخالفاً للمبادئ الأساسية».
إلا أن منطق التدخل حسم المعركة في النهاية، فتم حظر العمل الليلي في مصانع النسيج على من هم دون الثامنة عشرة، في النصف الأول من القرن التاسع عشر (رغم ضعف التطبيق في البداية)، ثم تتابعت الضوابط التشريعية.
وحاجج مناصرو هذه القوانين، بأن صحة وتعليم «الجيل الناشئ»، يمثل أهمية قصوى، إذ يحمل هذا الجيل، كما عبر أحدهم «بشائر المستقبل».
ومن المفارقات الصارخة، أن نجد أنفسنا في عام 2025 نستحضر جدلاً يعود لقرابة قرنين من الزمان. لكن، وفق التعبير المعاصر «عليك التعامل مع الواقع كما هو».
ويبدو أن بعض مناطق أمريكا اليوم تختار العودة بعقارب الساعة إلى حقبة القرن التاسع عشر.
اكتشاف المزيد من أخبار حياة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.