مقالات

جدلية المعارضة الداخلية للمقاومة في سياقات الاستعمار والاحتلال.. قراءة في الحالة الفلسطينية

أحمد عوض

إذا كانت تجارب الشعوب المستعمَرة والخاضعة للاحتلال قد كشفت عن وجود معارضة داخلية للمقاومة وخاصة المسلحة منها، والتي غالبا ما تقاطعت مصالحها مع قوى الاستعمار والاحتلال، فإن الحالة الفلسطينية المعاصرة تُعد من أكثر الأمثلة وضوحا على هذا النمط المتكرر.

فمنذ بدايات المشروع الصهيوني في فلسطين، برزت تيارات داخل المجتمع الفلسطيني تتوجّس من المقاومة بما فيها المقاومة المسلحة وتدعو إلى المهادنة، بحجج تتنوع بين الخوف من البطش، أو الحرص على ما تحقق من «مكاسب محدودة»، أو اعتبار المقاومة المسلحة خيارا غير واقعي.

خلال الثورة الكبرى بين عامي 1936 و1939، قادت فئات من العائلات الفلسطينية النافذة، التي تمتع بعضها بنفوذ اقتصادي وسياسي في ظل الانتداب البريطاني، حملة معارضة ضد الثورة المسلحة آنذاك. لم تكتف تلك القوى برفض العمل المسلح، بل ساهمت فعليا في إضعافه من خلال الوساطة والتعاون مع سلطات الانتداب، مدعية أن المقاومة المسلحة سيؤدي إلى قمع أوسع وخسائر أكبر للمجتمع الفلسطيني.

هذا النمط من المواقف لم ينقطع مع نهاية الانتداب وبداية الاحتلال الإسرائيلي المباشر عام 1948، بل استمر بأشكال جديدة، وبلغ ذروته بعد اتفاق أوسلو عام 1993، عندما تم إنشاء السلطة الفلسطينية ككيان إداري تحت الاحتلال، دون سيادة فعلية أو سيطرة على الحدود والمقدرات. منذ ذلك الحين، نشأت طبقة سياسية واقتصادية فلسطينية جديدة، ارتبطت مصالحها بشكل مباشر باستمرار منظومة الاحتلال، سواء من خلال التنسيق الأمني، أو الاقتصاد المشترك، أو النظام الإداري المعتمد على التمويل الدولي المرتبط بشروط سياسية.

تشكل هذه الطبقة اليوم البنية الحاكمة في الضفة الغربية، وتتكون من القيادات السياسية، وأجهزة الأمن، والبيروقراطية، إلى جانب شريحة من رجال الأعمال الذين استفادوا من التسهيلات الاقتصادية والتنسيق مع الاحتلال.

بمرور الوقت، تبنت هذه الطبقة موقفا صريحا ضد المقاومة بشكل عام والمسلحة بشكل خاص، معتبرة إياها تهديدا لـ»المشروع الوطني»، ومصدرا للفوضى، ومعرقلا لمسار «السلام» القائم على التفاوض. وقد تجلى هذا الرفض بأوضح صوره من خلال التنسيق الأمني، الذي أصبح ركيزة مركزية في العلاقة مع الاحتلال.

ومع تصاعد المقاومة المسلحة في قطاع غزة، خاصة في المواجهات الكبرى (2008، 2012، 2014، 2021)، ثم بشكل أكثر حدة بعد عملية 7 أكتوبر 2023، برز خطاب السلطة أكثر عداء تجاه المقاومة. ليس فقط في التصريحات، بل في الممارسة الميدانية، من خلال ملاحقة المقاومين في الضفة الغربية، وتفكيك البنى التنظيمية لفصائل المقاومة، بل واعتقال كوادرها، بالتعاون المباشر مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، ضمن ما يُعرف بسياسة «التنسيق الأمني».

ويبدو واضحا أن هذه المعارضة ليست فقط ذات طابع سياسي، بل تعبّر عن تحالف مصالح متجذر، يرتبط بوجود السلطة واستمرارها في صيغتها الحالية. إذ تشمل هذه المصالح: استمرار تدفق الأموال من الدول المانحة، تسهيلات دخول البضائع، تصاريح العمل داخل الأرضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، التنسيق المالي لتحويل عائدات الضرائب، إلى جانب شبكة مصالح داخلية تشمل الوظائف والامتيازات. كل هذه العوامل تجعل بقاء الاحتلال، بطريقة أو بأخرى، شرطا لاستمرار نموذج الحكم القائم في الضفة الغربية.

والأخطر من ذلك، أن هذا التحالف البنيوي بين السلطة والاحتلال، والذي أصبح واقعا سياسيا واقتصاديا معيشا، أنتج خطابا فلسطينيا رسميا يعادي المقاومة بمختلف أشكالها، حتى في ظل الجرائم الوحشية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، سواء في غزة أو الضفة الغربية. ولعل ما يجري منذ أكثر من عام ونصف في قطاع غزة من مجازر وتدمير منهجي، يقابله على الجانب الآخر حملة سياسية وإعلامية من قبل أوساط السلطة تهدف إلى تحميل المقاومة مسؤولية ما يجري، في تقاطع واضح مع سردية الاحتلال ذاته.

إن هذه الحالة تُمثّل إعادة إنتاج لتجارب شعوب أخرى واجهت استعمارا خارجيا، لكنها ووجهت في الوقت ذاته بمعارضة داخلية عطّلت مشروع التحرر الوطني، حفاظا على مصالح وامتيازات نخبوية ضيقة. وهي تؤكد أن الخطر الأكبر على المقاومة لا يأتي فقط من الاحتلال الإسرائيلي، بل من الداخل الفلسطيني أيضا، حين تصبح منظومة الحكم متماهية مع الاحتلال في الشكل والمضمون.

إن تفكيك هذا التواطؤ البنيوي بين بعض النخب الفلسطينية ومنظومة الاحتلال بات ضرورة لفهم فشل المشروع الوطني الفلسطيني، ولماذا تعثرت مسارات التحرر، رغم التضحيات الهائلة. فبدون تفكيك هذه المعادلة، لن يكون ممكنا بناء مشروع مقاومة شامل وفاعل، ولا يمكن تصور نهوض حقيقي لمجتمع يرزح تحت الاحتلال والاستعمار، في ظل سلطة تتماهى معه، وتعمل على إجهاض أدوات مقاومته باسم «العقلانية السياسية» و»المصلحة الوطنية».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
أخبار حياة