هيا مرتجى.. قلبها لم يتحمل صوت القصف فرحلت

أخبار حياة – في زاوية من زوايا غزة، كانت هيا مرتجى ترسم حلمًا بملامح الطفولة، استوديو صغير يضج بصوتها العذب، يُحاكي قلوب الصغار بأغانيه، يُحيك لهم قصصًا من الأمل وسط الدمار، ويُنسج من الموسيقى عالماً لا تسقط عليه القنابل.
لم تكن هيا مجرد صوت، بل كانت حياة تُضيء وجوه الأطفال، وتُهدئ روعهم عندما تهتز الأرض تحت أقدامهم.
لكن غزة التي تمنح أبناءها الأمل، هي ذاتها التي تسرق منهم الحياة، في 7 أكتوبر 2023، بدأ العدوان، وبدأت معه رحلة الخوف والترحال.
هيا، برفقة زوجها محمد الشناط وطفلتيها شام ومريم، تنقلت بين رفح، أرض المفتي، دير البلح، والنصيرات، تلاحق سراب الأمان، كانت غزة تضيق بهم كل يوم، وكأنها تختبر قدرتهم على النجاة.
حلمت هيا أن يكون الصبح مختلفًا، أن تستيقظ يومًا دون أن يُرافقها صوت الطائرات، لكن صوت الصواريخ كان أقوى من نبضها، أسرع من أنفاسها، قاومت الخوف مرارًا، لكنها كانت تحمل قلبًا وُلد صغيرًا على احتمال هذا القدر.
توقف قلبها فجأة، كما لو أنه قرر أن يُسلم نفسه قبل أن يسلمها الموت للقصف.
نُقلت إلى المستشفى الكويتي الميداني، بقيت هناك عشرة أيام، مُعلقة بين الحياة والغياب، حتى جاء الأول من نيسان، فغادرت بلا عودة.
يقول زوجها محمد الشناط، بصوت مبحوح بالكسر، إنها كانت دائمًا تخشى القصف، لكنها رغم ذلك غنّت حتى آخر أيامها.
لم تفهم شام ومريم بعد أن أمهما لن تعود، تسألان عنها كل صباح، تنتظران عودتها، ربما لا تزالان تأملان أنها ستفتح الباب يومًا، حاملة لهنَّ أغنية جديدة.
أما والدتها، رانيا مرتجى، فتتذكر كيف كانت ابنتها تهمس لها عبر الهاتف كل ليلة منذ بداية العدوان: “أماه، أنا خائفة.. متى ينتهي هذا الموت؟”.
كانت هيا تخشى على طفلتيها أكثر مما تخشى على نفسها، لكنها أيضًا كانت تخشى على غزة التي تحتضر تحت الأنقاض. كانت صوتًا للحياة، وحين سكن صوتها، صار للحياة وجه آخر، وجه يفتقدها.
لكن هيا لم تكن مجرد صوت ينشد للصغار، كانت يدًا ممدودة للخير، كفلت الأيتام، احتضنت الفقراء، طرقت أبواب المؤسسات لتؤمن لهم ما يحتاجونه، وحين خذلتها الأبواب، أخرجت من جيبها القليل لتُطعم من لا يملك شيئًا، حتى خلال العدوان، كانت تخرج بنفسها، توصل الأمانات لمن يحتاجها، وكأنها كانت تُودع العالم بإحسانها.
الموت في فلسطين لا يأتي فقط على أجنحة الطائرات، بل يتسلل عبر الخوف أيضًا.
كما رحلت هيا، رحل الطفل ريان ياسر سليمان من بيت لحم قبلها بعام، في 29 أيلول 2022، حين طاردته قوات الاحتلال، فتوقف قلبه الصغير من الرعب. كان في السابعة فقط، لم يُطلق حجرًا، لم يرفع سلاحًا، لكنه خاف.. والخوف في فلسطين موت.
أكثر من 50,523 شهيدًا، كانوا يحملون أحلامًا كما حملت هيا، كانوا يرسمون مستقبلًا لم يأتِ، يتشبثون بالحياة كما تشبثت هيا، لكن الصواريخ كانت أسرع، والموت كان أسبق.
أما السؤال الذي كان يطارد هيا: “متى ينتهي هذا العدوان؟ متى ينتهي هذا الألم؟”، فهو سؤال بلا إجابة، يظل معلقًا في سماء غزة، كما لو أنه انتظار بلا نهاية.