مقالات

جدلية المعارضة الداخلية للمقاومة في سياقات الاستعمار والاحتلال

أحمد عوض

في خضم العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، وتزايد وحشيته التي وصلت إلى مستوى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، ومع استمرار سياسة التهجير القسري والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، ظهرت مجددا ظاهرة مقلقة في المشهد الفلسطيني، تتمثل في تصاعد الأصوات الرافضة للمقاومة بكل أشكالها وخاصة المسلحة، بل والمناهِضة لها من داخل البيئة السياسية والاجتماعية الفلسطينية ذاتها. يحدث ذلك في لحظة يُفترض فيها أن تتوحد الجهود في مواجهة الاحتلال ومشروعه الاستيطاني الإحلالي.

إلا أن هذه الظاهرة ليست جديدة في سياقات النضال التحرري العالمي، بل تُعد سمة متكررة في تجارب الشعوب المستعمَرة. فقد عرفت مختلف حركات التحرر الوطني في القرن العشرين حالات مماثلة من الانقسام الداخلي، خاصة عندما تبنّت فئات من داخل المجتمعات المحتلة مواقف مناهضة للكفاح المسلح، معتبرةً إياه مغامرة غير محسوبة أو خطرا على مصالحها. وقد تراوحت دوافع هذه المعارضة بين اعتبارات دينية أو أخلاقية، إلى مصالح سياسية واجتماعية واقتصادية مباشرة، ووصلت في كثير من الأحيان إلى حدود التنسيق العلني أو السري مع سلطات الاستعمار والاحتلال.

تُظهر التجارب التاريخية أن المقاومة المسلحة شكّلت، رغم كلفتها العالية، أداة مركزية في دحر الاستعمار، ومع ذلك لم تحظَ يوما بإجماع داخلي. ففي الجزائر، مثلًا، وقفت فئات من النخب السياسية والاجتماعية التقليدية ضد جبهة التحرير الوطني، واختارت التفاهم مع السلطات الفرنسية طمعا في الحفاظ على امتيازاتها المحلية. واستُخدمت هذه الفئات لاحقًا كأداة سياسية وأمنية بيد الاحتلال لقمع الثورة.

هذا النموذج تكرر كذلك في فيتنام، حيث مثّل نظام جنوب فيتنام، بدعمه الأميركي، رأس حربة في مواجهة جبهة التحرير الوطنية «الفيتكونغ»، كما واجهت المقاومة هناك انتقادات من بعض الجماعات الدينية التي رأت في المقاومة وخاصة المسلحة خطرا على السلم الأهلي أو على مصالحها الخاصة.

وفي كينيا، عارضت العديد من الزعامات التقليدية المقاومة المسلحة ضد البريطانيين، وساهمت في إحباط «ثورة ماو ماو» التي حملت مطالب العدالة الاجتماعية وتحرير الأرض. واعتُبرت هذه الزعامات امتدادا داخليا للسلطة الاستعمارية.

أما في أميريا اللاتينية، فقد واجهت الثورات المسلحة في كوبا ونيكاراغوا وغواتيمالا مقاومة شرسة من نخب محلية اقتصادية ودينية، تعاونت مع أنظمة قمعية مدعومة من الخارج. في كوبا، عارضت قطاعات واسعة من رجال الأعمال حركة السادس والعشرين من يوليو التي قادها فيدل كاسترو، في حين تعاونت الكنيسة الكاثوليكية في نيكاراغوا مع نظام سوموزا ضد الساندينيين. وفي غواتيمالا، كانت معارضة كبار ملاك الأراضي عاملا رئيسا في إفشال الانتفاضات المسلحة.

ولا تقتصر هذه الأنماط على المستعمرات البريطانية والفرنسية أو المناطق المدعومة من الولايات المتحدة، بل تظهر كذلك في المستعمرات البرتغالية في أفريقيا، كما في أنغولا وموزمبيق، حيث عارضت زعامات محلية حركات المقاومة المسلحة وتحالفت مع السلطات الاستعمارية طمعا في الحفاظ على امتيازاتها في الأرض والموارد والسلطة.

يتضح من هذه الأمثلة أن هناك قاسما مشتركا يجمع هذه الحالات المختلفة: وهو أن المعارضة للمقاومة المسلحة غالبا ما تكون ناتجة عن الخوف من فقدان الامتيازات الاجتماعية أو السياسية، أو القلق من انهيار التراتبية التي كانت تضمن موقعا متميزا لتلك النخب في النظام القائم، حتى وإن كان هذا النظام استعمارياً.

ورغم أن القانون الدولي يقرّ بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال، بما في ذلك من خلال الكفاح المسلح كأحد أشكال الدفاع عن النفس، فإن هذا الحق يصطدم في كثير من الأحيان بمصالح فئات داخلية تستفيد من بقاء الاستعمار والاحتلال أو تخشى التغيير الذي تحمله حركات المقاومة.

إن قراءة هذه التجارب ليست استعادة للماضي من باب التوثيق فقط، بل تمهيد ضروري لفهم الحالة الفلسطينية المعاصرة، التي تُعيد إنتاج هذا النمط التاريخي بكل تعقيداته. وهو ما سيكون محور المقالة الثانية، التي تتناول تحليلا للسياق الفلسطيني في ظل استمرار الاحتلال وتصاعد أشكال المقاومة في غزة والضفة الغربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
أخبار حياة