محمد البردويل.. صوت غزة واليد الحانية على الفقراء والنازحين

أخبار حياة – في ليلةٍ حالكة من ليالي “الموت” بمدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزة، جلسَ محمد البردويل في زاويةِ غرفته، يترنم بحروف الخَلاص ويضمُّ مصحفه إلى صدره.
لحظاتٌ مرّت قبل أن يباغت شقته في الحي الإماراتي، غربي المدينة، صاروخٌ، فيختطف روحه في لحظةٍ عابرة، لحظةٌ لم تمهله حتى كي يضع مصحفه جانبًا.
هوى بيته أرضًا، وتناثرت الأوراقُ كما لو أنها طيورٌ بيضاء تحاولُ الهرب، وبقي المصحفُ هناك في حضن محمد، شاهدًا على رحيلٍ موجع لصوتٍ طالما صدح باسم غزّة وأهلها، وانتصر لضحايا المقتلة.
محمد، الصحفي في إذاعة صوت الأقصى المحلية، لم يغب عن المشهد وحده. طائرات الاحتلال أبت أن تترك شاهدًا على آخر اللحظات والضحكات من أهل بيته، فأخذتهم معه جميعًا.
وباستشهاد محمد، ارتفع عددُ الصحفيين الشهداء إلى 209، ومع كل رقمٍ يُضاف إلى القائمة، يتجددُ السؤال: إلى متى يبقى الصوتُ الفلسطينيُ جريمةً في عرفِ المحتل؟
“مات وهو ماسك القرآن” قال أحد جيرانه بتأثر، مضيفًا: “أخذ برفقته زوجته وأطفاله، وكأن الاحتلال أراد أن يمسح كل شيء يحمل اسمه”.
وكتب زميلُه المصور أحمد إبراهيم: “هذه نهاية طريق الصالحين، لم يفارق محمد قرآنه، واستشهد وهو يحتضنه”، أما الناشط محمد عبد العزيز، فكتب بوجع: “الأخ الحبيب، السند في الحرب، فقدك كبير ولا يسد فراغك أحد.”
ونعى مراسل التلفزيون العربي إسلام بدر صديقه البردويل، وكتب على منصة إكس: “يعلم الله أن فقدك صعب.. العزاء أنك استشهدت كما كنت ترجو وكما هي خاتمة الصالحين مثلك يا أبو صالح شكرا لله ان كتب لي رؤيتك والسلام عليك في أيام الهدنة اليتيمة بضع كلمات وسلام ثم تعاهدنا على لقاء أندم أني فوَّته”.
وتابع: “الدرس يتكرر.. التقط صورة مع كل من تحب ولا تفوت موعدا معه.. فلا تعرف هل تلتقيان مرة أخرى؟ وأيكم سيكون أسبق وأيكم سينعى الآخر”.
وروى الكاتب السياسي والاجتماعي أحمد أبو رتيمة شيئاً مما عايشه من حسن سيرة الصحفي البردويل، وتفانيه في خدمة النازحين.
وقال: “في بداية الحرب نقلت مع عائلتي إلى مستشفى ناصر في خانيونس بعد إصابتنا في القصف. بعد أيام بدأت ألاحظ أن وجبتي غداء تصل كل يوم في نفس الموعد إلى سريري وسرير أطفالي فسألت عن أمرها. قيل لي: هذه يرسلها محمد صالح البردويلكل يوم لك ولأطفالك.. ظل على هذه الحال شهراً كاملاً حتى خرجنا من المستشفى”.
وأضاف: “فجعنا كثيراً في هذه الحرب حتى صار الفقد خبرا يومياً معتاداً لكني شعرت اليوم حين سمعت خبر اغتيال أبي صالح وعائلته باختناق لم أشعر به في أخبار فقد سابقة، فقد رأيت منه عونا ومؤازرة في أشد أيامي عسرة وكربة. أشعر أن له دينا في عنقي لم أوفه إياه، ولست وحدي في هذا فقد كان يكفل مئات العائلات في الحرب ويقيم لهم مراكز إيواء، لقد كان سباقا في الخير سمح النفس متفانيا في العطاء”.
وكتب الكاتب السياسي د. إياد القرا، راثيا البردويل إنه ممكن تميزوا بصوت إذاعي جميل، وأخلاق عالية، وممن عمل في المجال الخيري والإغاثي خلال الحرب، ولم يبخل في تقديم يد العون والمساعدة للمحتاجين والنازحين”.
في حين كتب رفيق له في العمل الخيري: “ساعد في شهر رمضان أكثر من 5000 أسرة فقيرة. نعمل سوياً في العمل الخيري والإغاثي منذ عام 2008 صديق وأخ وحبيب صاحب اليد الحنونة على الفقراء”.
لم يكن محمد مجردَ صحفي، بل كان وطنًا صغيرًا يسيرُ على قدمين، يمدُّ يده للضعفاء، ويساندُ من يحتاج. لم يكن صوتهُ مجردَ بثٍّ إذاعي، بل كان نداءً للحياة في وطنٍ يصرُّ على البقاء.
رحل محمد البردويل، لكنه لم يغب، بقي في صوتِ الأثير، وفي صفحاتِ مصحفه، وفي قلوبِ من أحبوه، شاهدًا أبديًا على الحقيقة، اسمًا لا يمحوه الدمار، وذكرى لا تغيبُ عن ذاكرةِ فلسطين.